غريب

حيثما ذهب غريب تتبعه غربته ، هو الغريب حيثما حل ، فهو وغربته رفيقين مذ جاء لهذه الدنيا ، كانت الغربة تشع من عينيه، الكل يحب غربته، فهو الغريب في الدنيا، فهو الجميل في عيون الجميع، لا كرامة لنبي في وطنه ، وهو بلا وطن في كل كراماته ، يجلب مزيجاً من الخوف والرغبة أينما ذهب ، فالجميع يود معرفته ، والكل يخشاه ، عندما دخل مقهاه المعتاد ، خيم الصمت على المكان ولم يعد سوى صوت فيروز تغني يسمع في ارجاء المقهى : " كيفك انتا ، ملا انتا ... "
-         ايمكنك رفع درجة الصوت قليلاً يا صديق.
أشار لنادل المقهى بذلك ، ثم شكره بهدوء وجلس.
غريب يختلف عن جميع الزبائن، لا يرضى أن يسمع سوى فيروز، ولا يحتاج لقائمة طعام ليعرف النادل طلبه، فهو الوحيد الذي يحتسي الجعة نهاراً، والقهوة ليلاً .
-         تفضل .
-         أبهذه السرعة ، تطور عن المرة السابقة .
قالها وأبتسم . لا يعلم أحد فيم يفكر هذا الغريب ، ملامحه غير قابلة للقراءة.
بضع فتيات على الطاولة بجواره يتهامسن :
-         من هذا الرجل ، يبدو لطيفاً .
-         بل أشعر بالخوف منه . لكني أرغب بمعرفته.
-         اذهبي ، كلميه .
-         لن أفعل ..
يشرب غريب زجاجته بسرعة قبل أن يطلب أخرى ، ليحتسيها ببطء وهو يفكر ماذا يريد أن يأكل اليوم، ثم يغادر المقهى ليبدأ نهاره المتعب ، يمشي في الشوارع المتوزعة حول ميداني المنارة والساعة في رام الله، يبحث عن شيء ما في وجوه المشاة ، لا شيء هنا سوى هو ، كلهم آلات ميكانيكية ، يقتله الروتين وتقتله غربته في هذا الوطن .
-         لماذا عدنا الى هنا ؟ هل هذا هو الوطن الذي كنت تريده يا غريب !؟
-         هذه فلسطين ، اليست هذه هي ؟
-         أي فلسطين ، لم يعد ثمة من فلسطين .
كانت الاصوات تتردد برأسه ..
-         ماذا يعني الوطن؟
-         لا أعرف
-         ماذا يعني الوطن ؟
-         لم أعد أعرف.
-         ما هو الوطن ؟
لم يجب نفسه هذه المرة .. يؤلمه السؤال كل مرة أكثر من ذي قبل ، لم يأخذ أحد رأيه عندما أراد ذووه العودة الى الوطن ، لم يهتم أحد برأيه في اتفاقية اوسلو أو مباحثات مدريد ، كان يجب أن يفعلوا ذلك ، لربما تغير الوضع الآن ، ربما لم يجر كل شيء بهذه الطريقة ، ربما لم يعد غريباً .
-         غريب .
-         مساء الخير
-         الى أين تذهب ؟
-         حيثما تأخذني قدماي
-         أليس من مكان محدد؟
-         من لا يعرف أين يذهب لا يضل الطريق أبداً.
-         انضم لنا اذن .
-         أود أن أكون وحدي اليوم ، أيمكنني ذلك؟
-         حسناً ، أراك لاحقا ايها الغريب .
اكمل غريب طريقه وهو يفكر : " ما اسمه ؟ ، آه ، ستقتلني هذه الذاكرة الصدئة ". هو حقاً لا يعرف أين يذهب ، فقط يريد المشي وحيداً ،  يريد أن يرافق نفسه اليوم ، فلا مكان لأي شيء آخر سواه.
يقول أحد المارة :
-         سحقاً لك من وطن .
-         هل ثمة من وطن ؟
يسأل غريب نفسه .
-         ربما كان هناك . في مكان آخر
-         لم لا أستطيع تذوق يافا هنا ؟
يافا ، وجع الغريب ، يافا ، رائحة البرتقال  ، يعشق غريب يافا بطريقة مجنونة ، يستوقفه اسمها كيفما ورد، يافا ، مدينته الوحيدة ، هناك هو الوطن بالنسبة له ، على شاطيء يافا .
في أحد مقاهي هذه المدينة ، يحتسي غريب القهوة رافضا اضافة أي جزيء من السكر لفنجانه ، يعشقها مرة كما تكون الحياة ، يشعل سيجارة ليشعر بطعم الموت ، الموت الذي لا يعنيه حقاً ، كم أوشك على الموت من قبل ، يجلس بجانب النافذة ليراقب المارة في طرقات رام الله ، مدينته الغريبة كـ " هو " ، يلازمه قلمان مستعدان لإجراء معركة من وقت لآخر في أرجاء ورقة ، يعرف أقلامه كما يعرف الفارس سيفه ، فهما رفيقاه حيثما حل ، لا يشرب سوى القهوة عندما يكون وحيداً ، وحيدٌ دائماً هذا الغريب ، لكنه يريد أن يشاركه غربته أحدهم اليوم ، يتناول هاتفه ويطلب رقماً ما ، ليكلمه .
-         مساء الخير يا غسان ، أين أنت؟
-         مساء الخير ، أنا في رام الله ، كل عام وأنت بخير ، أين أنت؟
-         في مقهانا المعتاد ، سأنتظرك .
-         حسناً ، أنا في الطريق .
القهوة ، عشقه مذ كان طفلا ، كان يشربها بالسر كما يختلي سكير بزجاجة خمر ، أحبها مرة منذ البداية ، هل كان يعلم من قبل أن القهوة ستصبح تمثيلاً سائلاً لحياته فيما بعد؟ ، يحب القهوة مغلية جيداً وبدون وجه، تغيظه تلك الاقنعة، يحب صنع قهوته بنفسه لينتشي مع فورانها ، كأنه يمارس الحب .
"أتحبين القهوة ؟ " ، سؤال يسأله لأي أنثى قبل أن يفكر في أي شيء آخر ، كم تعجبه الفتاة التي تشرب قهوتها بدون فساد السكر، سوداء بدون أي اضافات . قهوته تذكره بهن ، يحببنه لغربته ، ويذهبن حين يجدهن وطناً ، كم وحيدٌ هو والقهوة .
-         كأس آخر من القهوة لو سمحت ، بدون سكر .
بالعادة يشاركه قهوته كتاب ما ، أو نصٌ يولد ، وأحياناً يفضلها بدون شريك ، لا زال يقدس القهوة ، يحب أن يشربها بعيداً عن العيون ، كما عندما كان في السادسة ، عشيقته السمراء ، يختلي بها ليطفيء شبقه لها ، كما لو أنها أنثى .
قهوة ، هو كل شيء في هذا الوطن ، شعب يقطف يانعاً غضاً ، ليحترق في نار الدنيا قبل أن يطحن ويغلى ، ليتناوله البعض ساخناً . قهوة ، هي الحياة ، مرة ،لذيذة ، تسبب الادمان والاكثار منها يسبب مشاكل في القلب. قهوة ، هي تلك الفتاة التي يحب ، سمراء ، ساخنة ، ولا يستطيع اكمال نهاره بدون احتسائها في بدايته. قهوة ، هو كل شيء .
-         أهلاً غسان ، تفضل واجلس يا صديق .
-         كيف أنت يا غريب ، أتممت العشرين اذن ؟
-         جيد ، نوعاً ما .
-         كل الاشياء جيدة نوعاً ما ، لكن من الجيد أن تكون الأمور جيدة . نوعاً ما فقط .
-         قهوة؟ ..
-         لن تكون كالقهوة من يدك ، لكن لا بأس بها هنا ، قهوة .
يوميء للنادل ليحضر كأساً آخر من القهوة .
-         بدون سكر أيضاً .
-         بلى ، السكر يفسد القهوة .
يصنع غريب قهوته بحرص ، يجب أن تكون مثالية ، فهي أكثر الاشياء قدسية في فوضاه الغريبة التي يطلق عليها البعض اسم "حياة"، يغلي الماء ببطء حتى يبدأ بالفوران كما لو كانت اجزاؤه تتمرد على كيانها وكينونتها، يكلم ركوته ببضع كلمات محبة ، قبل أن يضيف اليها بضع ملاعق من القهوة البنية ، ويحركها لتبدأ بالهدوء، "خلقت القهوة للماء ، كما خلقتِ لي " ، يهمس لإحداهن ثم يقول لنفسه: "ليست هنا لتسمع على أي حال " ، يحرك قهوته كأنه يلامس شعرها البني المنسدل على كتفيها ، تبتسم له ثم تبدأ بالفوران كمثل مشاعره معها ، يبعدها عن نار قلبه قليلاً لتهدأ ، ثم يرجع لمراودتها عن نفسها ، كم يرغب بها ، كم يرغب بالقهوة ، حالما تصبح قهوته مستعدة له ، يكون قد احترق من الداخل رغبةً بها ، يسكبها في كأس ، لا يكتفي من فنجان قهوة ، ثم يأخذها لمعتزله ويجلس معها ، يتأملها كما لو انها أنثى ، يشعل سيجارة، يتذوقها ببطء، يشرب قهوته كأنه يقبلها ، يداعب الكأس برقة ، ويشرب ببطء الى أن تنتهي القهوة، ليشعل سيجارة أخرى، بطعم مختلف.

تعليقات

  1. القهوة والوحدة والغربة هي من طقوس المنفى اصبحنا نعيش في وطننا وبين اهلنا وكاننا اغراب في منفى
    راق لي جدا اخر سطر يشعل سيجارته بطعم مختلف ولك انت ايضا ان تنظر للحياة بنظرة مختلفة لتشرق معك
    رائعة حروفك المنبعثة من قلب غريب

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة