على ضفاف الحياة


حين يبدأ العد التنازلي، يصبح صوت دقات عقارب الساعة أكثر حدة وتوتراً من أي لحظات أخرى. وحين تقترب النهايات تصبح البدايات بعيدة جداً عنا وكأنها وقعت منذ قرون طويلة. ربما خوفاً من النسيان أو نشوة أخرى من تساؤلات الرحيل نحو المجهول. وبين كل الاحتمالات التي تحمل تناقضاتنا في وجودنا العابر بين الأماكن، ولأن الفراق وقع وثيقته بيننا، كان لا بد لي ـ وللمرة الاولى ـ أن أتحدث فيها علانية عن شيء عايشته أكثر من أي شيء آخر في هذه الدنيا ولم يكتب لنا الفراق بعد. هو مرضي "الذئبة الحمراء". فحينما تكون رافضًا للمرض مثلي، تحاول على قدر المستطاع أن تتناسى وتتعايش معه، لدرجة أنه يصبح جزء من حياتك ومعاناتك أينما وجدت، حتى أنك قد تصدق الكذبة التي نسجتها حول نفسك؛ بأن الأمر بسيط كنزلة البرد الموسمية في الشتاء القارس، ولكن نظرات الخوف والقلق التي تواجهها في كل مكان تجرك إلى الواقع بسلاسل من حديد، وتضعك في مواجهة مخاوفك التي لطالما حاولت الاختباء منها. فعندما يسألني أحد الأصدقاء ما علاقتك بهذا المرض أقول له ساخرة "كاتفاقية أوسلو" يلصق بي منذ عشرين عاما تقريبًا. أشبهه دائما بالانقسام بين الفصائل الفلسطينية التي لا توجع أحدا سوى جسد الوطن وتنخر به. يذكرني بالحواجز الإسرائيلية التي أنهكت قواي كلما مررت بها للوصول الى عملي وأسميتها رحلة "أعرف بلدك". جهاز المناعة الذي بدوره يدافع عن أجهزتك أصبح لا يبالي ويهاجم أعضاءك الداخلية. حرب عشوائية تحدث داخل هذا الجسد. تلك الآلام التي لا يستطيع الجميع فهمها. فمريض الذئبة يكافح طوال الوقت لكي يبدو طبيعيًا قدر المستطاع، المحيطون به لا يتفهمون آلامه وكفاحه اليومي من أجل القيام بأبسط الأنشطة البدنية. لا أعرف كيف يمكنني وصف شعوري حينما عجزت عن القيام عن المقعد بمفردي للمرة الأولى، تخيلوا معي فتاة في الثانية والعشرين من عمرها تملأ الدنيا مرحًا بأحلامها التي لا تنتهي، تنام أكثر من أربع عشرة ساعة متواصلة دون جدوى، آلام متفرقة تغزو جسدي النحيل وتجعلني كعجوز في أواخر الشيخوخة، شهور طويلة قضيتُها على سريري على أمل أن يزول هذا الإرهاق البدني المتواصل، ولكنني لم أكن أدرك حينها أن النوم لا يسبب سوى مزيد من الآلام! التأقلم مع المرض صعب، ولكن مع الوقت أدركت أنه جزء لا يتجزأ من حياتي، شئت أم أبيت سيظل داخل خلاياي ينهش عظامي ويُهلك مفاصلي، وربما مع الوقت قد يتسرب إلى أجهزتي الحيوية، وأعلم أن المواجهة بيني وبينه ستحتدم حينها! لا شك أن إصابتي بالمرض غيّرت نظرتي للحياة بأكملها، فما عدت أستطيع العمل يوميًا لفترات طويلة كما في السابق، ما عدت أحب الشتاء وأكره الصيف، فالشتاء لمريض الذئبة يعني مزيداً من البرد الذي ينخر في عظامه، وحر الصيف يعني تهيج الدم الذي يصبح ثائراً كالبراكين داخل شراينه. فلم يعد لدي صبراً لاحتمال المزيد من الشخصيات اللزجة في حياتي كيفما كانو ومن كانوا، فلقد أكسبني المرض نضجًا قبل الأوان ومنحني القدرة على تمييز بين ما هو ضروري حقًا للحياة أو وجوده في الحياة. لم تكن فقط آلامي هي العامل الوحيد الذي أرهقني، لكن جهاز مناعة الحياة "كالمحاكم والقضايا والقضاة والمجتمع" كمتحولون من مدافعين عن قضيتك الإنسانية الى مهاجمين كوني أمراه مطلقة وناجحة وشخصية قوية. رحلة تعيسة على ضفاف هذه الحياة، لا تخاف من الموت ولا تكره الحياة، تعمل وتجتهد وتناضل من أجل أحلامك، ولا بد لي من الاعتراف أنني أطمح للوصول الى العالمية كمخرجة فلسطينية. وطموحي كان أكبر من الواقع المرير الذي تعيشه السينما في فلسطين، وهذا العالم المليء بالنظرة المسبقة والحتمية من المجتمع لهذا التخصص، وأيضا من داخل ذاك العالم، سؤال يراودني دائماً هل للفنان أن يعيش حياة عادية؟ لم أكن لاقتنع يومياً بمتاريس الحياة والتقاليد، لطالما بحثت عن رونق خاص بالحياة يتعطر بوجود من أحب ليخلق عالماً استثنائياً بقلبه وروحه حول طيفي، نصعد مركباً سوياً ليأخذنا إلى أطراف الكون، وهناك نعيش بما لم نكن لنحلمه يوماً هنا. لكن الواقع يفرض نفسه عليك حين يغتالون أحلامك. وأحداث تجرك إلى القاع حين تفرض نفسها عليك. كأن تعمل وراء مكتب خشبي في غرفة صغيرة جدا لا تتسع أحلامك الكبيرة، لكي تؤمن لك قوت طفلين اخذت عهدا من سنين على نفسك باحتضانهما. لكن يجرني الدمع الممزوج بالدم حين أسأل: وماذا عن روح الفنان بداخلنا؟ عن أحلامنا؟ عن المسافات التي لم تجمعنا؟ عن ألامنا الجسدية؟ عن منفاي في غرفة صغيرة ومكتب خشبي طوال 9 أعوام حتى تصنع جيلاً شاباً يهتم لقضاياه الإنسانية، ويصرخ عاليا "لي حقوق في بلدي"، وعلي واجبات يطالب بها كجزء من حقه بالعيش الكريم. وهذا النضال كان ولا يزال جزءاً من آمالي وطموحي أن نبني وطناً واجيالاً صانعة وفاعلة للتغيير، لكنني اليوم وفي شهر نيسان أستودعكم خيرا وأعلن انني ولأول مرة في حياتي غلبني المرض، والتنقل بين أرجاء الوطن لم ترحمني فيه حدة الشمس ولا ساعات الانتظار بين الحواجز بين مدننا لأكون فريسة الموت الذي لطالما تحديته بأنظمة غذائية من وحي الطبيعة، واستطعت لفترات طويلة السيطرة عليه. أستودعكم والألآم تعصر روحي، بعدما عصرت الألام كامل جسدي، فلا جدوى من وصف الألم وكيف تستطيع كريات الدم من خيانة صاحبها وتنتقل من موقف الدفاع الى خط الهجوم. لكن ولإن أسمى آيات الوجود هو التضحية للأخرين، لذا معظم الأحيان لا تهتم لذاتك ولكن تنظر الى الأشخاص الذين يحبونك وينتظرونك فتقرر المقاومة مرة أخرى. لذلك أستطيع ان أقول لكم أحبكم جميعا بدون استثناء، وأتمنى ان تكونوا في موقف الدفاع عن قضاياكم ما زال الدم يجري في عروقكم إلى أجل غير مسمى. أستودعكم بكل ما أعطيته لكم من أجل الإنسانية، وحافظوا عليها أمانة لغيركم وللأجيال من بعدكم.

تعليقات

المشاركات الشائعة