عاطلة عن العمل

رام الله لم تبدو يوما أسوء في نظرها مثل ما بدت اليوم، طالما قالت أنها واحدة من أسوء المدن على وجه الأرض، اكتظاظ مثير للأعصاب، ازعاج لا ينتهي كي يبدأ، جوٌ كان يفترض به أن يكون باردا رشيقا انقلب لحار بدين، سماء اكتست بالكلاحة بدلا من زرقتها الطبيعية، وأشجار لم يتبقى منها إلا زهيرات تستجدي الرحمة والعطف من ماري الشوارع والأرصفة، تستصرخ البشر حبا بالله أبقوا علي.
لقد باتت المدينة تزداد تشوها مع كل يوم يمر، لقد ولدت فيها وعاشت حياتها كاملة هنا إلا أنها لم تحبها يوما، فلا روح ولا حياة تنبض في شوارع اسمنتية قذرة مزدحمة، ورغم أنها منذ الأزل تقول انها تريد أن تعيش في قراها وسط الخضرة والجبال إلا أنها تدرك حق الإدراك أن ذلك ليس سوى حجة تقولها وتكررها كالبيغاء، فمن سابع المستحيلات أن تتمكن من التأقلم مع مكان آخر، أو مع أشخاص آخرين، فرام الله بقاطنيها الوافدين من أرجاء فلسطين كافة إن صح القول تشكل علبة كعك لا تشبه واحدة أختها، ولا تلقي بالا إليها، ولا يهمها رأسها من قدميها، ورغم أن أهل البلد -كما يطلقون على أنفسهم وهي طبعا من ضمنهم مفتخرة باللقب رغم أنها مجرد دخيلة كما غيرها وان اختلفت الأسباب وتنوعت- يعشقون تمييز أنفسهم عن أهل القرى بكونهم أكثر تحضرا، ولا يدسون أنوفهم فيما لا يعنيهم إلا أن الحقيقة الصارخة هي عكس ذلك تماما وإن كانت أقل حدة من القرى، فأهل رام الله يهوون النميمة ويعشقون انتقاد غيرهم ويتلذذون بمراقبة من حولهم وتقديم تقارير كاملة عن بعضهم البعض، أما لمن تقدم هذه التقارير فهي أيضا تقدم لبعضهم البعض.
في الواقع هي تعيد وتكرر أنها لا تحب رام الله ولكنها عاجزة عن مفارقتها، هل يعود هذا لمزاجها المتقلب؟ في الحق هو عائد لشخصيتها المركبة بطريقة خاطئة، فهي تريد ولا تريد ثم لا تدري أهي فعلا تريد، ولكن الأمر المؤكد لها رغم تناقضها هي أنها تحب وتكره رام الله، فكل شيء لديه وجهين، وشتاء رام الله بلا ريب رائع ومغر لا تقدر على مقاومته، إلا أن الأمر لم يتوقف هنا يوما، فالرغبة اليتيمة المغروسة عميقا داخل جوارحها وهي العثور على عمل دائم لم يجد له يوما مستقرا خارج شوارع رام الله الأربع الرئيسية، رام الله هي قلب فلسطين الاقتصادي! العاصمة المؤقتة لفلسطين!، الكثير من الصفات تطلق على هذه الشوارع والأحياء الصغيرة المزدحمة إلا أنها باتت تدرك في نهاية المطاف أن هذا التمسك لا يبدو أنه سيؤتي ثمره النهائية، أجل رام الله القلب الاقتصادي والسياسي لفلسطين، ولكنه قلب مريض بحاجة لعملية زراعة جديدة علها تبعث الحياة في عروقه المتجمدة والمتيبسة جراء ممارسات صاحبه غير الصحية وغير السوية.
الأمر الأكثر أهمية بالنسبة لها كان الحصول على وظيفة، ولكن هل كان ذلك بهذه السهولة في رام الله؟، إن كل ناشئ وباحث عن عمل في هذه المدينة سيقول لك لا، بل إن كل باحث عن عمل في فلسطين من شرقها إلى غربها وشمالها إلى جنوبها سيقول لك لا، فأن تعثر على مصباح علاء الدين لهو أسهل من العثور على وظيفة في فلسطين، والطريقة الوحيدة التي تمكنك من الوصول إلى وظيفة أحلامك كما يصفها الكثير من الحالمين هي الواسطة والمحسوبية، إن كنت تريد النجاح فقبل أن تبحث عن الوظيفة ابحث عن واسطة، ابحث عن شخص متنفذ يساعدك في الوصول إلى ذلك المنصب، ولا يتوقف الأمر على الوظيفة الحكومية، بل إن هذا يشمل كل نوع، الوظيفة العامة والخاصة ومؤسسات المجتمع المدني الحقوقية منها والقانونية، كل هذا يحتاج إلى ما يشتهر فلسطينيا باسم فيتامين و، الفيتامين الخارق للطبيعة والذي يمكنه أن يحول الأحلام إلى حقائق على أرض الواقع، وهي في الواقع حاولت كثيرا البحث والتعثر بهذا الفيتامين ولكنها لم تنجح في ذلك، ستكذب إن قالت أنها تلك المحامية الملتزمة بالقانون، فلا أحد في رام الله بأسرها يلتزم بالقانون أساسا حتى تلتزم هي بها، والواسطة أجل هي من جرائم الفساد ولكن حبا بالسماء من ذا الذي يهتم بهذه التفاصيل الصغيرة!.
أجل، لقد بحثت عن الواسطة طويلا، ولكنها للأسفل لم توفق في الوصول إلى واحدة لأسباب عديدة، فهي تكره التعامل مع الناس في المقام الأول، وليس من السهولة عليها أن تذهب لتطلب من شخص ما أن يساعدها في الحصول على وظيفة ما، أهو الخجل؟ ليس بالمعنى المتعارف عليه بين الناس على الأقل، ففكرة الطلب بحد ذاتها تصيبها باشمئزاز لا حدود له، إذ لم بحق الجحيم يتوجب عليها أن تذهب لتستجدي التعاطف من الآخرين للحصول على وظيفة قد تتمكن من الحصول عليها دون تلك المسرحية السخيفة بأكملها، أما من الجهة الثانية فهي لا تمتلك تلك الصلات من الأساس كي تحاول التعويل عليها، ومثلها هكذا الكثيرون، زهور مغمضة في ريعان شبابها، شبان قادرون لو وفرت لهم الفرصة أن يحطموا الصخور بأيديهم العارية، طالما فكرت بهذه الحقيقة وهي تستمع صباح كل يوم إلى الأغنية الخاصة ببرنامج سمة بدن على الصبح، فإحدى جمل الأغنية تقول أنا مش عاطل أنا عاطل عن العمل، خريج مش هامل أنا، بايدي بهد أعلى جبل، كلمات بسيطة ولكنها تغوص في أعماق لا قرار لها، طوال الأشهر الست جلست تستمع للنغمة خمسة أيام في الأسبوع معيدة إياها مرارا وتكرارا ومقلبة كل حرف منها محللة إياها ودارسة حيثياته، فهذه الكلمات تشكل صرخة في وجه صناع القرار بأن توقفوا عن إضاعة قوة شابة يمكنها إعادة بناء البلد من جديد، توقفوا عن ترهيل الشبان وتحطيم معنوياتهم، توقفوا عن تكسير الأحلام وسحقها تحت البساطير دون شفقة أو رحمة.
كلمات فضفاضة واسعة تحدثت بها مع نفسها ومع غيرها من الشبان من أمثالها، فالعديد من رفيقاتها ورفاقها كانوا وما زالوا يمرون بتلك الحالة المأساوية التي لا حد يوضع لها، وهم نفسهم من تراهم في كل امتحان وظيفي كتابي كان أم شفهي يتعلق بوظيفة ما، فجميعهم محامون أو هذا على الأقل ما تقوله بطاقات المزاولة بيضاء اللون التي حصلوا عليها، وهؤلاء الذين لم يعثروا على مكان لهم داخل المحاكم يلاحقون بظمأ أي اعلان وظيفي، وهم نفسهم دوما في كل امتحان، وبقدرة قادر هم نفسهم أيضا من يوظف غيرهم ويضطرون أن يعيدوا الكرة من جديد في الاعلان القادم ليتلاقوا في القاعة مرة أخرى ويخوضوا الامتحان من جديد ليفشلوا ويعيدوا الكرة ثانية وثالثة ورابعة دون كلل أو ملل.
الآلاف غيرها يعيشون هذه الحياة ذاتها، والكثيرون من معارفها وخريجي فوجها الجامعي يخوضون هذه الحياة المزرية، بل إن من تبعها بات يفكر في أن دوره على عتبة هذه الحياة قد آن أوانه، شبان وشابات, لا فرق بات في رام الله، فلا الفتاة ستجد عملا ولا الشاب سيجد عملا، محامين ومحاميات حديثوا العهد حصلوا على مزاولاتهم منذ سنتين أو ثلاث كحد أدنى، منهم من يعمل لدى محامٍ كبير يحصل على الفتات من خلفه، منهم من يحاول أن يعمل وحده بهدف الحصول على الفتات من موكليه، والجزء الآخر يود لو يلقي بالبطاقة البيضاء في اقرب سلة قمامة ويحصل على وظيفة ثابتة مريحة في بنك أو مؤسسة، إلا أن هذا الحلم وهو الذي يراود الأغلب ليس بتلك السهولة بمكان، وهو ما يدفعهم ليصطفوا على الدور إلى أمامها وخلفها متقدمين نحو تلك الحياة، حياتها تلك مثلهم كانت حياة حركة وركض وبحث أيضا، ولكن حركة وركض بين صفحات مواقع التوظيف واعلانات الوظائف على صفحات مواقع الانترنت ومواقع التواصل الاجتماع وصفحات الجرائد، وبحث عن واسطة ما علها تنجح في الحصول على تلك الوظيفة التي عثرت عليها بعد طول عناء. 

تعليقات

المشاركات الشائعة